تراجع الفضاء الإلكتروني التواصلي في عملية التغيير السياسي في الوطن العربي - تساؤلات مشروعة

الدكتور صباح ياسين – أكاديمي

تكمن الشروط الأساسية لإمكانيات المعرفة الحقة في معرفة الافتراضات المسبقة الأساسية لكل معرفة. إن هذه المقولة البالغة الدلالة في المعنى والغاية التي قدمها لنا هايدغر عن العلاقة بين المقدمات المنطقية والنتائج المتوقعة، تفتح لنا مساراً متصلاً للتساؤل عن تلك العلاقة التي تفاعلت بتوتر شديد التداخل بين ممكنات التواصل الاجتماعي عبر الفضاء الإلكتروني وعملية الحراك السياسي التي شهدتها الأقطار العربية منذ عام 2010 ولغاية اليوم، وهي تساؤلات ليست جديدة في معنى ارتباطها الراهن، فقد بدأت مع دوران آلة المطبعة البخارية قبل أكثر من خمسة قرون (مطبعة جوهان جوتنبرغ البخارية) حين انطلق مفهوم الاتصال الجماهيري، ولازالت تتفاعل بأوجه مختلفة لغاية اليوم.

ومنذ اليوم الأول الذي اهتز فيه الكيان العربي - بعد فترة من السكون - بصحوة تفجر الشارع العربي (تونس 2010) فإن الإعلام دخل الميدان بقوة تنافسية للحركات والتنظيمات السياسية التقليدية، وتقدم في الدور التأثيري والتنافسي منتزعاً المبادرة في حشد الشارع وتفعيل وتنظيم حركة الاحتجاج على نحو غير مسبوق، وتحولت المساحة الضوئية في أجهزة الحاسوب الشخصية وفي الهواتف المحمولة إلى ما يماثل دور جريدة العروة الوثقي قبل قرابة أكثر من قرن من الزمان (أصدرها جمال الدين الافغاني عام 1884) والتي كانت توزع سراً في أقطار المشرق العربي لتحرض على الثورة واستقلال البلدان العربية. الزمن يستمر والوسائل تختلف، إلا أن الفعل التأثيري يبقى واحداً وإن اختلفت مسميات عوامله وتنوعت نتائجه.

ويتداخل المشهد الإعلامي اليوم بصورة مكثفة، وبتقدم الفضاء الإلكتروني إلى مساحة الفعل الإعلامي تحقق أمراً لم يكن معهوداً قبل نصف قرن على أقل تقدير، فقد أصبح المصدر متلقياً بشكل دائري في منظومة التواصل الاجتماعي، وبمعنى آخر فقد كسرت ممكنات التواصل الاجتماعي عبر الفضاء الإلكتروني الاحتكار الذي ساد لفترة طويلة في إطار علاقات المصدر والوسيلة والرسالة والمتلقي ورجع الصدى، تلك الثوابت التي عرفت كمقدمات نظرية في علوم الاتصال والإعلام ودُرست لعقود من الزمن في المعاهد وكليات الصحافة والإعلام في الوطن العربي باعتبارها ثوابت مختومة باليات محددة في سياق الفعل التواصلي القائم، الصحافة ثم الإذاعة وأخيراً التلفزيون والتلفزيون الفضائي الذين خضعوا لذلك التوصيف المحدد والمعبر عن معنى فعل الاتصال وغايته.

وقد يسود الانطباع أن صحوة الحراك الشعبي العربي (مهما كانت مسمياتها ثورة أو ربيع أو حراك) كانت صنعة إلكترونية بامتياز، صنعة قائمة على بنى تشاركية في بناء المعنى والغاية، وأخذت مساحتها عبر المشاركة الشعبية في بناء أسسها وغاياتها، ويتقدم فعل ذلك الفضاء التواصلي الاجتماعي (التشاركي) فئة الشباب على وجه الخصوص، والشباب هنا ليس فئة عمرية حسب، وإنما فئة منظمة وواعية لأهدافها وغاياتها ومتمكنة من تطويع تلك الوسائل التواصلية وتفعيلها لأغراض تنظيمية وبخبرة متميزة في التعبئة وإدارة الصراع بوجه الانظمة المستبدة، ولإدامة معركة الشارع السياسي باتجاه التغيير، وكل ذلك ما كان ليتحقق لولا الشبكة الواسعة المنتظمة على أطراف مواقع التواصل ومتفاعلة مع حركتها وتوجهاتها.

وكرست الأفعال التواصلية عبر منظومة المواقع الإلكترونية خلال فترة الحراك الشعبي العربي عن دلالة القوة الهائلة التي يمكن لوسائل الإعلام وبضمنها المواقع التواصلية البينية داخل المجتمع من تحريك الشارع الساكن وتثويره، وهنا لا يمكن أن نحيد عوامل قد سبق الحديث فيها عن فاعلية الفضاء الإلكتروني وفي المقدمة منها فشل الأنظمة السياسية العربية الحاكمة في البلدان التي شهدت الحراك الشعبي عن إنجاز مهمات التغيير والتقدم وضمان الرفاهية لشعوبها بالإضافة إلى الاستبداد وتغول السلطة وغياب الديمقراطية والمشاركة الشعبية فى الإدارة والقرار عبر المؤسسات التمثيلية الحقيقية (وهذا يشكل إدانة لوجود برلمانات منتخبة بالتزوير وصيغ المحاصصة المذهبية والطائفية والمناطقية والتي فشلت في التعبير عن المصلحة الوطنية في تلك البلدان)، فكان الإعلام عبر الفضاء الإلكتروني هو الأداة الفاعلة في تفجير الشارع السياسي وإدامة زخمه حتى تحقيق أهدافه في إسقاط تلك الحكومات المستبدة.

ووقفنا بدهشة نصفق بقوة لقدرة مجموعة طليعية من الشباب في مصر (على سبيل المثال كما هو في العديد من الأقطار العربية) وهم يستخدمون بكفاءات تنظيمية وتعبوية عالية الفضاء الإلكتروني التواصلي لنسج منظومة ثورية اقتحامية تواجه قوات القمع الحكومية المناوئة لاحتجاجاتهم السلمية، وتدفع كل يوم بقطاعات شعبية للانضمام إلى حركة التغيير، إن مشهداً حياً ونموذجياً للقدرة الوطنية حين يتم حشدها وتنظيمها يمكن استعادته في صورة صمود المتظاهرين على جسر قصر النيل في القاهرة (28 كانون الثاني 2011) وهم يجبرون قوات الأمن المدججة بالأسلحة على التراجع والفرار أمام مسيرتهم المتقدمة نحو ساحة الاعتصام، ساحة التحرير أو ميدان التحرير كما يعرفه المصريون سابقاً وكما يعرفونه اليوم بعد أن أصبح رمزاً وطنياً للحرية والكرامة الوطنية.

وهكذا عبرت وسائل التواصل الإلكترونية عن مستوى غير مسبوق في التأثير بالحياة السياسية العربية، وقد كُتب الكثير عن ذلك التحول من وجه نظر سياسية وإعلامية وسوسيولوجية، ومن منطلق ذلك الفضاء الذي استطاع أن يأخذ المبادرة ويطورها ويفعلها ميدانياً، وكيف أننا وجدنا أن الأحزاب والقوى السياسية ولأول مرة لم تكن في الصفوف الأمامية لفعل التغيير (رغم أن بعض القوى والأحزاب العربية حاولت أن تركب الموجة وتدعي لها دوراً في ذلك)، إلا أن الواقع يشي بأمر مختلف تماماً، فقد امتزجت روح الشباب العربي المنتفضة ضد الاستبداد والطغيان مع آليات وقدرات فعل التواصلي بفضائه الواسع والمؤثر والتي لا تقف عند حدود قدرات أجهزة الرقابة المسبقة أو اللاحقة ولا تمنعها حواجز (قمعية سلطوية عقابية)، وكان ذلك الاشتباك (المدرك والمنظم والهادف) عنواناً مرحلة جديدة من العمل السياسي العربي الراهن لا يمكن إغفاله أو تجاوزه.

وبما تحقق خلال سنوات الحراك الشعبي الذي ساد أغلب الأقطار العربة وأنجز في أغلبها تغييراً جذرياً في بنية السلطة السياسية وتحقيق مشاركة سياسية شعبية حقيقية وفاعلة وبعضها لازال العمل مستمر فيها، فإن ثمة تساؤلات مشروعة تثار اليوم عن مدى قدرة تلك الممكنات التواصلية (الفضاء الإلكتروني) في إدامة فعل التغيير، أو على الأقل في المحافظة على المكاسب التي تحققت لصالح عملية إسقاط أنظمة الاستبداد وإحلال قوى التغيير الوطنية القادرة على إنجاز مهمات البناء السياسي وتحقيق العدالة والتنمية والتقدم، وتلك التساؤلات تستند إلى معطيات الخلل أو التراجع الذي حدث في مستوى الحراك أو توقفه في بعض البلدان (العراق والسودان مثلاً) أو استمرار الحراك ولكن بأشكال وصيغ تقود إلى تدمير النسيج الوطني قبل تدمير البلدان ذاتها (سوريا نموذجاً).

ولا يقف الأمر عند حدود تلك التساؤلات بل يتعداها إلى البحث المنهجي في الآليات الحقيقية التي استطاعة أن تدفع بالفضاء الإلكتروني التواصلي إلى منصة المساهمة بالتغيير بديلاً عن الحياة السياسية التقليدية ونخبها في الأحزاب الوطنية أو غيرها في دور المؤسسة العسكرية (الانقلابات العسكرية) التي تحسم معارك التغيير بفعل زمني قصير يتحدد بحركة الجيش من معسكراته للاستيلاء على مقر السلطة السياسية الحاكمة، وفي الوقت ذاته البحث في الأسباب والعوامل التى أفضت - نسبياً - إلى توقف أو تراجع دور الفضاء التواصلي الإلكتروني في الحياة السياسية العربية اليوم، نقول نسبياً للتأكيد أن الفضاء التواصلي لا زال قائماً وفاعلاً ولكنه دون شك ليس كما عهدناه في الحراك الشعبي في تونس ومصر واليمن نموذجاً.

مرة أخرى أننا في هذه التساؤلات نبحث عن الافتراضات التي تقف خلف كل شروط المعرفة والوصول إلى الإجابات، وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال التراجع عن القناعات السابقة أو التقليل من شأن فعل التغيير الثوري الذي تحقق في ميادين الحراك الشعبي العربي، وما تحقق كان مختوماً بالدماء وقوافل من الشهداء، وبعضها لازال يدفع لإنجاز التغيير بتضحيات كبيرة، ولكن الإشارة إلى العوامل التي أسهمت في التراجع النسبي لتأثير الفضاء الإلكتروني التواصلي، يمكن أن يعد استدراكاً ضرورياً في مسار التحول شديد التعقيد في المستوين السياسي والاجتماعي في الوطن العربي، ولضمان توصيف موضوعي حقيقي وعادل لا يستهدف إدانة قوى التغيير أو الوسائل التي استخدمتها وفي مقدمتها الفضاء التواصلي، وفي ذلك نوع من شروط الموضوعية الفكرية والعدالة التي تتوافق مع الأهداف النبيلة للحراك الشعبي العربي والقائمين على تفعيله وإدامته.

وهنا يجب التفريق بين الحقيقة والشعور بالحقيقة والمسافة بين الاثنين تتمحور في مساحة العواطف التي تعصف بنا مجبرين بعيداً عن إمكانية الإباحة والتقرير بالواقع وفي هذا نعطي أرجحية لليقين بدلاً من عاصفة العواطف، ولذا يمكن أن نرجح بعض العوامل التي قادت إلى ذلك التراجع الذي نحن بصدد تأشيره في إطار عدد من العوامل الضاغطة والتي أوحت لنا افتراضاً أو حقيقة أن التراجع قد حدث فعلاً:

أولاً: عملية الإحباط لدى الجماهير العربية من النتائج المتحققة والتي أعقبت فعل التغيير في عدد من البلدان العربية، وما آلت له الأمور من اصطراع واقتتال داخلي ومن فوضى وغياب السلطة المركزية وسيادة قوى مناطقية أو طائفية أو محاصصة على حساب العدالة والشرعية، فأضحى الأمر وكأن التغيير المنشود قد تحقق لصالح قوى غير التي تؤمن بها الجماهير أو أن فعل التغيير قد تم سرقته من قبل قوى استطاعت أن تتسلل إلى منصة التغيير وتهيمن على الدولة الجديدة بوسائل غير مشروعة.

ثانياً: أن الشباب، وهم القوى الفاعلة التي استطاعت أن تُفعل الفضاء التواصلي الإلكتروني في البدايات والمقدمات المباشرة والواعدة لفعل الحراك الشعبي العربي، والقادرة على ضمان حيوية وفعل تواصل الحشد بالقوى المؤمنة بالتغير والقادرة فكرياً وجسدياً على الصمود في ساحات وميادين التغيير، قد وجدوا أنفسهم بعد إنجاز التغيير أنهم خارج الصورة، وأن القوى السياسية التقليدية قد قفزت إلى السلطة وأمسكت بالمواقع القيادية فيها، وأن تدعي (زوراً) أنها قوى التغيير الحقيقية، وكان غياب الشباب أو تغيبهم (قسراً) يعد عاملاً أساسياً في تراجع تواجدهم عند حدود توظيف الفضاء التواصلي في إطار الفعل التأريخي والمادي للحراك.

ثالثاً: إن النتائج التي حققها الفضاء التواصلي الإلكتروني في عملية التغيير في العديد من الأقطار العربية، قد حفزت الحكومات العربية للانتباه والتدقيق في أهمية هذا الميدان في أية عملية احتجاج أو رفض أو تغيير محتملة. ولذا فأننا نجد اليوم الكثير من الأقطار العربية وقد بدأت بإصدار تشريعات قانونية منظمة وضابطة لأطر وفعاليات التواصل البيني عبر بوابات المواقع الإلكترونية وممكناتها، وقد تذهب بعض الحكومات إلى حجب تلك الخدمات مؤقتاً أو عن بعض المدن التي تشهد احتجاجات شعبية (مدينة الفلوجة في العراق نموذجاً)، وكذلك في تشديد العقوبات على المخالفين لتلك القوانين والتشريعات.

وغير ذلك، فأن هنالك عوامل أخرى أسهمت في تراجع الدور التأثيري للفضاء التواصلي الإلكتروني في الوطن العربي، بعض منها يتصل بالضغوطات الأجنبية الخارجية، وأخرى ما يتعلق بالبنية التنظيمية لقوى الشباب في الوطن العربي ودورها المحتمل في إدامة فعل التغيير والحراك.

ومع كل ذلك فأن التساؤل يحمل مشروعيته والإجابة على معطياته ونتائجه تستدعي المزيد من البحث العلمي والمنهجي في الجوانب الاجتماعية والعلائق القائمة بين قوى التغير وأدواتها وأهدافها.

4/3/2014