هل الثورة والإرهاب شريكان في سوق "النِخاسة الدموية"؟

مطاع صفدي - مفكر عربي مقيم في باريس

أسوأ ما ابتليت به مجتمعاتنا العربية الخاضعة لسلطات المركّب المشؤوم: الاستبداد/الفساد. هو حرمان هذه المجتمعات، ليس من أبسط حريات الفرد والجماعة فحسب، بل من قدرتها على التطور والتغيير بصورة تلقائية ومتنامية من ذاتها. فقد أمسى التغيير محتاجاً إلى عوامل القوة والإكراه والعنف الجماعي كيما يكسر قليلاً أو كثيراً من حدّة الطغيان السلطوي. كأنما صار التغيير مضطراً إلى التوسل بمناهج الاستبداد ذاتها. إنه مجتمع القهر الذي لم يعد يمكن تعديله إلا بانتهاض عنف آخر، وإن كان شعبياً ولكن بشرط تمتعه بطاقة عنفوان أكبر قد تزعزع أركان التسلّط.

مُركّبات الاستبداد/الفساد لا يمكنها أن تصحح نفسها بنفسها. فهي عاجزة عن خفض معدلات العنف، في حين أن طبيعتها تطالبها بالمزيد منه. تغيّر الاستبداد محكوم بقانون المضاعفة لقدراته، وليس أبداً بالحد من غلوائها. فلم يعرف التاريخ أبداً نظاماً طغيانياً واحداً تنازل عن جبروته بمحض إرادته، ليس هناك مجال لنوع السياسات الإصلاحية سواء كان في ظل الاقطاع السلطوي المطلق الموروث عن القرون الوسطى، أو في ظل الديكتاتوريات الحديثة. فالتناقض بين القمة الأُحادية المسيطرة والقاعدة المضطهدة، هو من طبيعة جذرية غير قابل للحلول الوسطى بين الطرفين.

مجتمعات الاستبداد ممتنعة ذاتياً على الاستجابة الطوعية لإيقاع التمرحل. فهي سجينةُ مرحلتها الأُحادية لا يمكنها مبارحتَها أو تخطي بعض حدودها، إذ ليس وراء حدودها إلا الفراغ المخيف. الاستبداديون يعلنون إلغاء قانون التطور، ليس قبلهم أو بعدهم أحد. بالمقابل لن تظل مجتمعاتهم بمنأى عن عِللِ أو أوبئة حكّامها الطغاة. بمعنى أن هذه المجتمعات لن تستطيع أن تقاوم العنف إلا وهي مضطرة إلى استعارة بعض تقاليده وأدواته. لن يكون أمامها ثمة من خيار آخر سوى طريق المعارضة، فالتحرر، فالثورة. هكذا باتت تجارب "العالم الثالث" ما بعد استقلالها عن الاستعمار الأوروبي، محكومة بقانون الثورة ما دامت لا يمكنها أن تخترق سجون استعمارها "الوطني" الجديد إلا باستعارة أجهزته الضاربة عينها. فما كان ينتظر مستقبل "العالم الثالث" ليس هو التنمية المدنية، بل هو مسلسلات من أنواع الحروب الأهلية على اختلاف تسمياتها ومواصفاتها.

مجتمعاتنا العربية تنطعت لأدوار الريادة عبْر هذه المسلسلات البائسة، فقد تمسكت طلائعُها التنويرية بثقافة حركات التحرر الوطني. لكن هذه الطلائع قلما أوصلت فئة منها الى سدّة حكم مستديم ولو لفترة تاريخية ما. فقد فرضت الأحداث العنيفة العامة أن ينعزل التنويريون في بقع أو زوايا متناثرة من هوامشها. كان عملاء العنف هم فرسان الحلبات السياسية الانقلابية. صعد هؤلاء على أكتاف المناسبات الموصوفة أحياناً بالثورية. فكانت الشعارات الملعلعة في الفضاءات تختزل الأفكار التقدمية، تسترق منها حروفها التائهة في الوقت الذي تطمس معانيها وتغرقها في مستنقعات النسيان أو الأفعال المضادة لها جملة وتفصيلاً. هكذا كانت صناعة العنف وحدها هي البديلة عن التنمية المستدامة، هي العابرة لحدود الانقلابات. فما كان انقلاب ما يتميز على ما سبقه إلا بمدى ما يبتدعه من جديد العنف وأدواته وجولاته المظفرة. فإذا ما حلَّ الربيع وثوراته في صحارى حياتنا السياسية القاحلة، كان العنف هو الموروث الجاهز للاستعمال الفوري والمباشر.

إذا ما سأل الشباب الناهض عن وسيلة التغيير المتوفرة تحت عباءة هذا الربيع. قدّم العنف لهم قُمقمَه السحري، يفركون قمته لتنطلق منه شياطين الشرور المكبوتة كلها دفعة واحدة. ولكن لماذا كان كل هذا الهول نائماً أو متوارياً، بانتظار أن يأتي الربيع الجميل!

لعلّه يجب الاعتراف: المشرق العربي غارق في بحران المقتلات الفئوية، إنها نوازع التسلط الفردي والفئوي كان لها أن تحوز على جائزة السبق في كل مناسبة صراع مع الأفكار، والُمثُل الاجتماعية، وذلك في مختلف منعطفات النهضة الاستقلالية طيلة العقود الأربعة أو الخمسة المنقضية. الأمر الذي حتَّم على الربيع ألا يواجه فقط أصنام الاستبداد في القمم العليا من دولنا الهشة، ها هو أمسى منخرطاً في بحران من الصراعات العبثية على مستوى القوى الشعبية نفسها وتجمعاتها السياسوية العرضية، المنشغلة بإلغاء بعضها للبعض الآخر، أكثر من انهمامها بزعزعة أركان الطغيان، ذلك الهدف المركزي الذي تدّعي جميع الفصائل أنها قد تكونت وثارت من أجل تحقيقه.

نوازع التسلّط يحركها دافعان، في عصر الاضطرابات والهيجانات الشعبوية، هما المال والسلاح. فهما الفارسان المجليان في تلك الساحات الدموية التي تسودها شريعة العنف ما وراء مختلف الأعلام، وما فوق كل الشعارات المرفوعة. وفي حين يندفع الثوار الأبرياء بصدور مفتوحة نحو مصارعهم، هناك من يحصي أعداد الضحايا مقابل الفواتير المدفوعة آجلاً أو عاجلاً. أما "الربيع" فهو الذي عليه أن يذكر الجميع أن الثورة كانت في أصلها ضد سُرّاق المال الكبار في الدولة والمجتمع، فكيف لا تكون، وهي في ميادين القتال، ثورة حقيقية على سماسرة النخاسة الدموية المستجدة.

هذه النخاسة الدموية لم تعد تكتفي بتقنين معارك الانتصارات والهزائم، لم تعد تشتغل فحسب على اختراع المناصب والزعامات. صار لها أن تتدخل أخيراً في اقتراح أخطر تحريف يضرب صميم المسار العام، ينسف التسويغ الوجودي لمولد "الربيع" وسيرته ومصيره. كما يحدث اليوم في سوريا المنكوبة بكل وعودها. ما عدا الوعد بالحرية، رغم كل المهالك تحت أعلامها المتناقضة. فقد تجرأ أسياد "النخاسة الدموية" على الجهر والعلنية الصارخة. طالبوا الثورة أن تلغي نفسها بنفسها، أن تتحول إلى مجرد حرب مرتزقة ضد الإرهاب. أن تُبطل دعواها بإسقاط النظام، بل أن تتحالف معه موضوعياً، لمحاربة أصحاب الوجوه والأعلام السود. ليس هذا كابوساً وهمياً. بل هو صميم الحراك السلطوي منذ الأساس لهؤلاء الأسياد وأتباعهم. هذه النتيجة المشؤومة هي التي تفسّر ما قبلها، ذلك السلوك المعوج المنافق الذي حيّر الرأي العام العالمي، وليس العربي والسوري وحده. إنها شريعة النخاسة الدموية التي لم تعطِ مرة سلاحاً لثائر إلا لكي يقتل به رفيقه، أو ينتحر بناره. لم تعطه حفنة دولارات إلا لكي يسرقها منه سماسرة "العلاقات العامة" بطريقة ما. إنها ثلاث سنوات من أصناف الدمار للإنسان والمجتمع والدولة، ولكل ما هو وطني وحضاري في هذا البلد المفجوع بأكبر آماله التاريخية، ولكنه الباقي والمصر على البقاء، حتى في قلب كل طفل يتيم أو مشرد.

هذا لا يعني أن الثورة لن تصارع نقيضها الذي هو الإرهاب. بل ربما قد تضاعفت رسالتها فهي بقدر ما تجدد العزم على مقارعة خصمها الحقيقي المتمثل في نظام تسلّط مشرف على نهايته، فإنها تتصدى لبعض منجزاته القديمة، مركّب الاستبداد/الفساد. هو الجهاز المركزي المصنّع أصلاً لإنتاج سِلَع الإرهاب ومشتقاته. وقائع التاريخ الفعلي لكل هذه الحقبة منذ تسعينيات القرن الماضي تنطق ببراهين المصنِّع الأول لإرهابيات المشرق العربي في كل فصوله ونماذجه ومهالكه.

لن يكون الإرهاب هو القرين المضاد للربيع العربي. فقد يغدو الإرهاب مصدر رهانات خبيثة تستهدف الغدر بمنجزاته، الضرب والطعن في ظهر أبطاله، التشويش المفضوح على معانيه وقيمه. بيد أنها لن تحلّ بديلاً عنه، بل سوف تثبت أسواؤها فضائح الإرهاب وجرائمه ضد الإنسانية. ومقابله سوف يكون على الربيع العربي أن يُبدع فضائله النقية الواضحة.

إن ثورة أصيلة صادقة ضد مركّبات الاستبداد/الفساد هي وحدها الكفيلة بانتهاض ثقافة الخلاص ما فوق مستنقعات "النخاسة الدموية"، حيثما تتعدد حقاً جبهات الصراع المفتوحة ضد كل ثورة صادقة مع ذاتها وفرسانها أولاً وأخيراً، وقد كان ويكون "الإرهاب" أخطر ما أنتجته إيديولوجيا النخاسة الدموية. إنه الذروة التكثيفية لحصائل العنف المستبطن لمختلف هزائم النهضة العربية المغدورة، ذلك أن كل مرحلة إرهابية كانت تتولد كرد فعل شعبوي على عقابيل هزيمة يتكبدها الحاضر القومي والسياسي. والربيع لمّا يهزم بعد. فلا مستقبل للإرهاب ما دام الربيع يُفاجئ أمته، قبل أعدائه، بمواسمه الحية.

ونسمع اليوم أن بعض سادة "النخاسة الدموية"، يودون الرجوع إلى رشدهم. يقرّون بأخطائهم، لولا التهاون والنفاق، والتلاعب بمصائر الثورة بين مؤتمر وآخر، بين تصريح من هذا الكبير والتصريح الذي يناقضه أو يعدله كبير آخر. هل كان للعنف أن يجند بين صفوفه كل الناقمين على متعهدّي الغرب وأتباعهم، هؤلاء الذين خدموا وأنقذوا النظام من كل عثراته، واحدة بعد أخرى. بينما فرضوا على الثوار كل شح بأسباب الصمود والمقاومة. غير أن الثورة لم تجف عروقها. لم تستسلم لأحكام الإعدام البطيئة التي دأب على إصدارها أعداؤها/أصدقاؤها. وإذ تخطت أرتال الشباب أصعب الفخاخ، فقد طلع أسياد النخاسة الدموية بتلك الصيغة السياسية كحل أخير للأزمة كما يدعونها بجعل كل من الثورة وعدوها شريكين في مفاوضات، ثم في صلح، ثم في توافق على شكل سلطة حاكمة لا تميز بين أقطابها من هم القتلة ومن هم الضحايا.  

ما يخططه عقل "النخاسة الدموية" كطريق محتوم لكل (أزمة). هو تحقيق غاية مزدوجة، حرب جديدة ضد الإرهاب، وفي الآن عينه تصالح مع النظام للإبقاء عليه لمرحلة قادمة، يدعمها من تبقى من ثوار الماضي. لكن الطريق مسدود من بدايته. والأزمة لن تكون كذلك إلا بالنسبة لمن اختلق صورتها، وغذى أفعالها. ويوم الغد لن يكون مختلفاً عما سبقه.

12/1/2014