جنيف2 والانتصار الممنوع

د. محمد أحمد الزعبي - ألمانيا

خطرت لي مجموعة هذه الأفكار، بعد أن استمعت قبل قليل، عبر أحدى الفضائيات، لوزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط البريطاني، وهو يؤكد أن الحل السياسي عبر مؤتمر جنيف2، هو وحده الحل الممكن للأزمة السورية المستعصية. إن معنى الاستعصاء هنا – من وجهة نظرنا - هو تعذر انتصار أحد طرفي المعادلة السورية على الآخر. وبالتالي فإن الحل الجنيفي سوف يقوم على أساس "لا غالب ولا مغلوب"، وأن الرجوع إلى ما قبل 15 آذار 2011 خير من التمادي في تحمل المجازر الجماعية والبراميل والموت ذبحاً بالسكاكين أو تحت التعذيب، أو الموت بسبب الحصار والجوع والمرض!!.

التضحية بالرأس مقابل بقاء الجسد (الحل اليمني)، لا منتصر ولا مهزوم، هذا هو الحل المسموح به - على ما يبدو - لدى جنيف لافروف وكيري وغيرهما.

إن ما سأورده في هذه المقالة من أفكار ومقاربات، حول الأبعاد الإنسانية والسياسية لمؤتمر جنيف 2، لا يعدو أن يكون اجتهاداً فردياً خاصاً وخالصاً، وهو اجتهاد قابل للنقاش، ولا سيما من قبل من يعنيهم الأمر.

1 - اندلعت الثورة السورية ضد نظام عائلة الأسد في منتصف شهر مارس 2011، بما هو نظام عسكري غير ديموقراطي، وبالتالي نظام معاد ومناقض لصندوق الاقتراع (النزيه والشفاف)، ولقد كان موقف كل من الثورة "ومؤيديها" من جهة، والنظام "ومؤيديه" من جهة أخرى، هو الاستمرار حتى النصر، والذي (النصر) كان يعني بالنسبة للثورة، أن يقوم النظام بإصلاحات سياسية ديموقراطية تؤدي إلى "الحرية والكرامة" عبر صندوق الاقتراع، أي عملياً تؤدي إلى إنهاء حكم عائلة الأسد الدكتاتوري العسكري، واستبداله بنظام مدني ديموقراطي تعددي وتبادلي، بينما كان يعني بالنسبة للنظام، الاستمرار بالتصفية الجسدية لما وصفه في خطابه في مجلس الشعب المعيّن بتاريخ 30/3/2011 بـ"العصابات المسلحة"، والتي قدر (هو) عددها يومئذ بـ(64000)!! إرهابي ثم حددها في تصريحات له لاحقاً بقوله "لقد كنا نحارب الإخوان المسلمين منذ خمسين عاماً، وسنستمر اليوم بحربهم"!! (هذا الكلام سمعته شخصياً من فمه). إذن، كان "الانتصار" يبدو بالنسبة لكلا الطرفين وكأنه "على مرمى حجر". هذا وقد كان الطابع العام للصراع بين الثورة والنظام في الأشهر الأولى، هو (الحل السلمي) بالنسبة للثورة، و(الحل الأمني) بالنسبة للنظام، أي أن النظام (بشار) هو المسؤول عملياً عن استمرار ومن ثم تطور هذا الصراع، ووصوله إلى ما وصل إليه اليوم، أي وصوله إلى مؤتمر جنيف برقميه 1 و2. وهذا شاهد على ذلك أقتطفه من البيان التأسيسي لهيئة التنسيق الصادر بتاريخ 25/6/2011، أي حين كان عمر الثورة ما يزال في حدود المائة يوم الأولى: "تمر سوريا اليوم بأشد أيامها صعوبة وإيلاماً... لقد أظهر شعبنا خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة شجاعة استثنائية في مواجهة نظام استبدادي فاسد، مقدماً أكثر من ألف وأربعماية من أبنائه شهداء، وآلاف الجرحى، وفوق عشرة آلاف من المعتقلين، وما يزيد عن خمسة عشر ألف لاجئ إلى الدول المجاورة. فالانتفاضة الشعبية السلمية الواسعة التي تطالب بالحرية والكرامة، واجهتها السلطة بالعنف والقتل والتعذيب والتشريد عبر أجهزتها الأمنية وبلطجيتها." وبعد مرور مائة يوم أخرى نقرأ في بيان الأمانة العامة للمجلس الوطني السوري الذ ي تشكل في استنبول في أكتوبر 2011، ما يلي: "وبعد استعراض الأوضاع المأساوية التي يعيشها شعبنا في ظل الهجوم الوحشي لقوات النظام وميليشياته على المدن والبلدات والقرى ... ناقش المجتمعون الرؤية السياسية للمجلس الوطني ... وأكدوا على أهمية الوحدة الوطنية، واستمرار الثورة ودعمها بجميع الوسائل، والحفاظ على سلميتها." (التشديد من الكاتب).

2 - بالرغم من الطابع السلمي والمشروع لانتفاضة آذار 2011، وحتى بعد بلوغ عدد شهدائها الآلاف فقد أصر بشار الأسد (خطابه في 30 آذار 2011، وخطبه اللاحقة) على الحسم الأمني لهذه الانتفاضة الشعبية، أي عملياً سحقها بقوة السلاح (الجيش، الأمن، الشبيحة) الأمر الذي ترتب عليه:

- انشقاق آلاف الضباط والجنود ممن رفضوا إطلاق النار على أبناء وطنهم وشعبهم، حيث انضم بعضهم إلى الثورة بما في ذلك العمل المسلح، بينما اكتفى بعضهم الآخر بالانشقاق ودون الالتحاق بالعمل المسلح.

- تحول الانتفاضة الشعبية إلى ثورة شعبية عارمة عمت كافة مناطق سوريا.

- تشكل الجيش السوري الحر، مقابل الجيش السوري النظامي (الأسدي).

وبينما كان سلاح الجيش الحر هو – بصورة أساسية – الإيمان بعدالة مطالب الثورة، كان سلاح قوات الأسد هو ضرورة الدفاع عن النظام مهما كان الثمن، وكان مجهزاً لهذا الغرض بأحدث وأفتك الأسلحة النوعية، وذلك تحسباً لمثل هذه الثورة الشعبية، التي كان يعرف، منذ أن استولى حافظ الأسد على السلطة عام 1970، أنها قادمة يوماً لا محالة.

3 - ثلاثة أخطاء تم ارتكابهما في هذه المرحلة، من قبل كل القيادات المدنية والعسكرية للثورة، حيث تم استبعاد التيار القومي العربي من قيادة الثورة، ولا سيما (بعث العراق، بعث 23 شباط، بعث أكرم الحوراني، الناصريون بمختلف أشكالهم، مجموعات وشخصيات وطنية وقومية أخرى)، وقسم كبير من التيار العلماني اليساري (الاشتراكيون بمختلف انتماءاتهم)، الأمر الذي معه تشظت المعارضة وتحزبت، "فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً، كل حزب بما لديهم فرحون"!!.

- تشكيل قطعات عسكرية مسلحة مختلطة من العسكريين المنشقين والمدنيين المشاركين في الثورة.

- تغليب وإبراز الطابع الديني، ولا سيما الإسلامي، على قيادات وتسميات وتصريحات ولافتات وأعلام هذه القطعات، الأمر الذي سمح للنظام أن يصدّ ر من جديد بضاعته القديمة، في أنه إنما يقاوم "عصابات مسلحة" مضيفاً إليها الآن كلمة "إسلامية".

4 – ولقد استطاع النظام وخبراؤه، أن يستثمروا بمهارة، هذه الأخطاء الثلاثة المذكورة أعلاه. وكان من أبرز وأهم وأخطر أشكال هذا الاستثمار:

- اللعب بورقة مكافحة "الإرهاب"، التي استطاع النظام بواسطتها تجذير الموقف الروسي المؤيد أصلاً للنظام، والتأثير على الموقف الأمريكي والأوروبي، الذي تحول من تأييد الثورة، إلى الوقوف على مسافة واحدة بينها وبين النظام (مسك العصا من وسطها)، مع بعض الاختلافات الشكلية، بين بعض هذه الدول في بعض المواقف في بعض الأحيان.

- اللعب بورقة "الطائفية"، وتصوير الثورة الشعبية على أنها تمرد إسلامي "سني" على نظام علماني تقدمي وحداثي (فقط!) لأنه "علوي"(!!). ولقد كان من مقتضيات نجاح اللعب بهذه الورقة الطائفية، تجنيد مجموعات من المخابرات السورية والعراقية (المالكي)، ومن المغفلين البسطاء في البلدين، وإطلاق سراح مئات السجناء الجنائيين (أيضاً في البلدين) وإدخالهم في صلب اللعبة الطائفية، ولا سيما في إطار (اختراق) المجموعات الإسلامية السلفية المتطرفة.

- وإذا كان اللعب بورقة "مكافحة الإرهاب"، قد أوقف تعاطف الدول الديموقراطية الغربية مع الثورة، (عملياً مع مطلب الديموقراطية) فإن اللعب بالورقة الطائفية، قد أدخل كلاً من إيران وحزب حسن نصر الله على الخط بصورة مباشرة ومعلنة، وذلك للوقوف مع النظام السوري "الممانع"!!، ضد الثورة السورية "غير الممانعة"!! (أظن أنه مسموح للقارئ الكريم هنا أن يهز برأسه ويبتسم).

5 - إن التساؤل المشروع، الذي يمكن طرحه هنا، هو: هل إن نظام بشار الأسد هو من يخدع الآخرين، أم أن الآخرين هم الذين يخدعوه، وبالتالي فإننا جميعاً في الجمهورية العربية السورية، نتصرف ونعيش – على ما يبدو - في ظل مرحلة "حقيقة الخديعة"، حسب عنوان رواية الكاتب الأمريكي، دان براون، وإلاّ كيف يمكن لحكام العالم "المتمدن" في المشرق والمغرب، الذين يعيشون على بعد أمتار من دمشق، أن يناموا وأنّات الجوعى والعطشى والمرضى في مخيم اليرموك والغوطتين وحمص، تحاصرهم وتستغيث بهم، وتذكرهم بأن هؤلاء الجوعى والعطشى والمرضى، بل الذين يموتون جوعاً وعطشاً ومرضاَ هم أخوة لهم في كل من الإنسانية والدين معاً.

ترى هل غابت المروءة والأخلاق في الغرب وفي الشرق؟!، وهل لم يبق أمام أطفالنا ونسائنا وشيوخنا، بل وكل أبناء وبنات شعبنا السوري العظيم إذن، إلاّ الصبر والتحمّل؟!.

9/1/2014